كم هو صعب على النفس أن نكتب خاتمة السيرة؛ لأن نفوسنا كانت متعلقة تمام التعلق بالحديث عن رسولنا.
فحديثنا عنه أسعد حديث، وتدبرنا في سيرته أجمل تدبر، واستفادتنا من دراسة منهج حياته أعظم استفادة.
لكن لا بد من تعليق ختامي على هذه السيرة العظيمة، وعزاؤنا أن هذا لن يكون آخر حديثنا عن حبيبنا ، وستتوالى -إن شاء الله- بعد ذلك دراسات ودراسات تتناول جوانب شتى من حياته .
لقد كانت سيرته مثالاً يُحتذى في كل شيء، وكانت مثالاً للفرد والجماعة، وكانت مثالاً للمجتمعات الصغيرة والكبيرة، وكانت مثالاً واضحًا لبناء الأمم.
لقد استطاع الرسول بالمنهج الرباني الذي أُوحي إليه أن يبني أمة من لا شيء، وأن يجمع العرب والعجم على دين واحد، ومبدأ واحد، وأن يقيم حضارة استحال على الزمان أن يجود بمثلها.
كان تغييرًا هائلاً ذلك الذي أحدثه رسول الله في الدنيا، ولا شك أن دراسة تجربته ليست أمرًا مفضلاً أو محببًا فقط.
ولكنها أمر واجب على كل مسلم أراد النجاة في الدنيا والآخرة، وأراد لأمته العزة والكرامة والسيادة والريادة.
بُعِث في أمة مُفرّقة مُشتتة، فشا فيها الظلم، وتعددت فيه صور الباطل، وكثرت الآثام والشرور.
وتمكن فيها المتكبرون والمتجبرون، فبدأ في أناة عجيبة، وصبر رائع يغيّر الأوضاع، ويعدل من المسار، ويُقوّم المعوج، ويوضّح الطريق، ويكمل الأخلاق.
ما ترك معروفًا إلا وأمر به، ولا منكرًا إلا ونهى عنه، ولم يكن طريقه سهلاً أو ناعمًا، بل كان مليئًا بالصعاب والأشواك.
وعارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتى حاربته عشيرته، وقاومه أهله، فما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة.
لقد بَنَى الأمة بناءً راسخًا، وبخطًا ثابتة ومنهج واضح، يستطيع كل صادق أراد لأمته القيام أن يحاكيه، ويقتدي به.
يقول فيما رواه ابن ماجه، وأحمد، والحاكم، والطبراني عن العرباض بن سارية السلمي t: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ".
مراحل بناء الأمة:
مر في بنائه لأمته بمراحل محددة لا بد أن تمر بها كل أمة لكي تُبنى، وكان له سنة ثابتة في كل مرحلة، من بداية البعثة، وحتى غزوة بدر الكبرى.
المرحلة الأولى:
وهي التي أسمِّيها (مرحلة الإعداد)، وبدأت منذ نزول الوحي، واستمرت فترة طويلة من حياته ، وكانت هذه الفترة حوالي خمسة عشر عامًا من عمر الدعوة.
وكانت فترة الإعداد في معظمها في مكة المكرمة، وبدأ فيها في انتقاء الأفراد الصالحين لحمل هذه الأمانة الثقيلة، وقد نجح في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين، ليس إلى أهل مكة أو إلى العرب فقط، بل إلى العالم أجمع. لقد كان بناء شاقًّا أشد صعوبة من بناء ناطحات السحاب.
لقد كان بناءً للإنسان من جديد، حرص فيه على توجيه نيات وقلوب الصحابة إلى ربهم I الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السموات والأرض، فخلصت قلوبهم لله، وعظموا قدره وأحبوا جنته، وخافوا من ناره، فتحركت كل ذرة في كيانهم له، وأصبح منتهى آمالهم أن يعملوا له.
وأن يرضى عنهم ويقبل منهم، ويغفر لهم ويرحمهم، فلما أصبحوا على هذه الصورة هانت عليهم كل المصاعب والمشكلات، وصغرت في أعينهم جبابرة الأرض، ومن ثَمَّ حملوا الرسالة العظيمة، وقاوموا بإصرار كل من حاول أن يثنيهم عن الوصول بها إلى آفاق الأرض، وإلى كل العالمين.
لم يترك أهل مكة رسول الله يفعل ذلك دون مقاومة أو صدّ، بل حاربوه بكل طريقة هو وأصحابه، فعذبوهم، وقهروهم، وبطشوا بهم، بل قتلوا منهم حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة البعيدة مرة ثم الثانية.
ومع ذلك كان المؤمنون في ازدياد مستمر، كانوا في ازدياد في العدد، وكذلك ازدياد في الإيمان، فاضطر المشركون أن يحصروهم في شِعْب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة فما ضعفوا وما استكانوا، وخرجوا من الشِّعب أشد قوة، وأعظم بأسًا.
ومات نصيره من أعمامه أبو طالب، وماتت زوجته الوفية خديجة -رضي الله عنها- فاشتد عليه قومه أكثر من ذي قبل، حتى خرج يبحث عن النصرة في الطائف، فما وجدها، بل وجد الصد والإعراض والتكذيب والشقاق وسوء الأخلاق، فعاد مرة ثانية إلى مكة، يكلم كل صغير وكبير في الإسلام، ويخاطب كل وافد على مكة في حج أو غيره ليشرح له رسالة ربه.
فكذبته عامة القبائل ورفضوا دعوته، حتى شاء الله له أن يقابل ستة من الخزرج من أهل يثرب، فآمنوا به وصدقوه، وعادوا إلى قومهم بالدين الجديد يدعون إليه، فآمن معهم آخرون، وجاءوا بعد عام إلى مكة ليبايعوا رسول الله بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا إلى المدينة، ومعهم مصعب بن عمير.
فما تركوا بيتًا ولا شارعًا ولا حديقة ولا مجتمعًا إلا وعرّفوه بالدين، فانتشر الإسلام في المدينة انتشارًا باهرًا، وجاء منهم بعد عام آخر ثلاثة وسبعون من الرجال وامرأتان؛ ليبايعوا رسول الله بيعة العقبة الثانية، ليصبحوا بذلك أنصار الله ورسوله.
وما هي إلا شهور قليلة، حتى ترك رسول الله مكة بكفرها، وهاجر إلى المدينة المؤمنة، التي صارت معقل الإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الأولى.
وهاجر الصحابة المكيون إلى المدينة مع رسولهم ، وعُرفوا بعد ذلك بالمهاجرين، واجتمع المهاجرون والأنصار بقيادة الرسول على بناء الدولة الإسلامية كما ينبغي -حقيقة- أن تُبنى الدول.
بَنَى دولته بشمول عجيب، وتوازن لافت للنظر، واستكمل كل جوانب دولته السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، وقبل كل ذلك العقائدية، فصارت دولة مضربًا للمثل لأي دولة في العالم في الرقي والحضارة، وسموّ الأخلاق، كل ذلك على صغر حجمها، وضعف إمكاناتها المادية.
ولم يتركه أعداؤه من المشركين من أهل قريش، أو من الذين لم يؤمنوا من أهل المدينة، بل تعاونوا مع الأعراب، ومع اليهود على حربه، والكيد له ، ولكنه قاومهم بحكمة شديدة وحنكة لافتة للنظر، تارة بالمعاهدات، وتارة بالإعراض، وتارة بالسرايا.
وظل في كل ذلك محافظًا على نهجه التربوي للمهاجرين والأنصار حتى أذن الله للصدام الأول بين الكفر والإيمان، وبين أهل الحق وأهل الباطل أن يحدث، فدخل المسلمون في مرحلة جديدة فكانت غزوة بدر الكبرى.
أو يوم الفرقان، وحدث ما لا يتخيله عامة البشر، وانتصرت الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة المشركة، وتحقق وعد الله، وارتفع شأن المسلمين في الجزيرة العربية، وسمع بهم كل العرب، وخضع مشركو المدينة، ودخلوا في الإسلام، إما اقتناعًا به.
وإما نفاقًا له، فظهرت بذلك طائفة المنافقين الخطيرة، الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الإسلام، وصارت هذه الفئة أخطر الفئات مطلقًا على الأمة الإسلامية، لكونهم يدبرون ويكيدون للإسلام، بينما ظاهرهم عكس ذلك تمامًا.
المرحلة الثانية:
وكان لا بد من وسيلة للتفرقة بين المؤمن والمنافق، وبين الصادق والكاذب، ومن ثَمَّ دخل المسلمون في مرحلة جديدة مهمة أسمِّيها (زمن وضوح الرؤية)، وهي عبارة عن سلسلة مضنية من الأزمات، والابتلاءات، والمعارك.
فكانت غزوة بني قينقاع بعد أقل من شهر من غزوة بدر، وحدثت مفاصلة مع اليهود مع شدة احتياج المسلمين في ذلك الوقت لمال وسلاح اليهود، ولكن المؤمن الصادق لم يكترث بذلك، بينما ظهر ولاء المنافقين لليهود، ثم كانت مصيبة أُحد، ومأساة بئر معونة، وحادث ماء الرجيع.
فكان لهذه الأزمات المتتالية أبلغ الأثر في تمييز الصف، وهذه المصائب لم يخترها رسول الله ، بل هي السُّنة الإلهية في اختبار المجتمع المسلم، فيثبت الصادقون وينجحون، ويهتز المنافقون ويفشلون، ولم تكن هذه الفترة العصيبة بلا انتصارات تبشر المؤمنين، بل كان الانتصار المهيب على بني النضير.
وكذلك الانتصار في بعض السرايا والغزوات، حتى شاء الله أن يحدث التمحيص الكبير، والابتلاء العظيم، والتفرقة الواضحة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين، فكان اجتماع المشركين من قريش وغطفان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وذلك فيما عرف في السيرة بغزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق في واحدة من أشد الأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية ضراوة، إن لم تكن أشدها على الإطلاق.
وبفضل الله ثبت المؤمنون وصبروا وتحملوا الجوع والخوف والبرد، وكتب الله لهم في النهاية النصر، بعد أن كشف لهم تمامًا أوراق المنافقين، وعلا نجم المؤمنين جدًّا حتى قال رسول الله بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تعبر عن الدخول في مرحلة جديدة: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ".
مرحلة الفتح والتمكين:
ثم كتب الله النصر للمسلمين في غزوة بني قريظة على القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة، وبذلك أَمِنت المدينة من شرّ يهود الداخل، ولم يبقَ من اليهود إلا تجمعهم الكبير في خيبر، وكان العام السادس، وهو العام الذي تلا غزوة الأحزاب عامًا عسكريًّا بحتًا، انتشرت فيه سرايا المسلمين هنا وهناك، ودانت لهم السيطرة على بقاع كثيرة في الجزيرة.
وانتهى هذا العام بحدث جليل مهيب سماه الله فتحًا مبينًا، ألا وهو صلح الحديبية، الذي اعترفت فيه قريش -وللمرة الأولى- بدولة المسلمين، وازدادت هيبة المسلمين في الجزيرة بشكل واضح.
وأعقب ذلك تحركات سياسية، وعسكرية، ودعوية من المسلمين على أعلى مستوى، وانتقل المسلمون من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى كافة الممالك والإمبراطوريات المعاصرة، وراسل ملوك وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام.
وأعقب ذلك بانتصار جليل على اليهود في خيبر، ثم انتصار أجلّ على الرومان في مُؤتة، وأسلم الكثير من عظماء العرب وفرسانهم، حتى توجت الانتصارات الإسلامية بالفتح العظيم في العام الثامن من الهجرة، حيث فتحت مكة أحب بلاد الله إلى الله ورسوله، وآمن أهلها بعد رحلة صدٍّ طويلة عن الإيمان.
وبعدها مباشرة انتصر المسلمون انتصارًا باهرًا على قبيلة هوازن وثقيف في موقعة حنين المشهورة، بعد هزة أولى أُتْبِعَت بهجوم ساحق وسيطرة كاملة على مجريات الأمور، وغنم المسلمون ما لا يتخيلونه من الأموال والأنعام.
وذاع صيت المسلمين في كل مكان، وجاءت الوفود من كل ناحية إلى المدينة المنورة تبايع الرسول على الإسلام، وأشرقت الأرض بنور ربها، وقُرّت عين رسول الله برؤية الإسلام يدخل كل بيت، وبرؤية الناس يسعدون بإيمانهم.
وينقذون من النار، وتخلل هذا الإقبال الشديد على دين الإسلام، دعوةٌ جريئة من رسول الله إلى جهاد الرومان في تبوك، وكان التجمع الإسلامي الرائع في ثلاثين ألف مقاتل مؤمن يقطعون الصحراء في ظروف صعبة قاسية، دون تردد، ولا وجل، فأنزل الله عليهم نصره دون قتال، وفرت جحافل الرومان من جيوش الإيمان، وارتفعت راية الإسلام في ربوع الجزيرة، بل في أطرافها وحولها.
ثم ختم حياته بحجة الوداع في العام العاشر من الهجرة بمظاهرة إيمانية رائعة، حضرها ما يزيد على مائة ألف مؤمن، فكانت هذه الحجة تتويجًا لجهود مضنية وتضحيات سخية، واطمأن على اجتماع أمته.
وعلى فقهها ودينها، وكمل الدين، وتمت النعمة بنزول قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3].
ومن ثَمَّ انتهت مهمة الرسول في تبليغ الرسالة وبناء الأمة، وحان وقت رحيله لينتقل إلى حياة لا تعب فيها، ولا نصب في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
لقد كانت حياة حافلة، سيظل البشر إلى يوم القيامة ينهلون من خيرها، ويستفيدون من دروسها، ويتعلمون من مواقفها، ويستمتعون بأحداثها.
إنها سيرة خير البشر، وسيد المرسلين، وإمام الدعاة، وخاتم النبيين، حبيب الرحمن، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وأول شافع، وأول مشفَّع، رسول الله .
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر: موقع قصة الإسلام